كنت كلما خرجت في الصباح الباكر أجده فوق تلك التلة الكبيرة متوجها ببصره نحو مشرق الشمس ..كم من مرة أردت أن أسأله مكمن سره في مراقبة الشمس..لما ينهض باكرا رغم صغر سنه؟...لو كنت مكانه لما نهضت في هذه الساعة المبكرة..ولكن أرى في عينيه الصغيرتين متعة في مراقبة الشمس وهي تشرق بين الجبال...كم من مرة أردت أن أسأله..ولكني خفت أن أفسد عليه هذه النكهة التي يحس بها...تلك السعادة الغامرة التي كانت تبدو من عينيه الجميلتين..فأتركه وانصرف إلى عملي ..أنظر من زجاج سيارتي نحو الشمس ...ترى ماذا يحس هذا الصغير وهو يراقبها؟ ..يبدو الأمر عاديا ولا يستحق كل هذا الاهتمام ..لما ينهض هذا الصغير في هذه الساعات المبكرة من أجل أن يشاهدها..وما أزال أتساءل حتى أصل العمل...وكان ذلك يتكرر كل صباح
وفي يوم من الأيام خرجت من البيت ولم أجد ذلك الصغير فوق التلة كالمعتاد...تعجبت....هل تراه سئم مراقبة الشمس وهي تشرق؟..أو تأخر عن موعد إشراقها...لعله لم يستيقظ مبكرا ...أو لأن السماء مغيمة قليلا...ولكن ما السر الذي يربط الشمس بهذا الصغير ؟ وما لذي جعله يغيب هذا اليوم؟...كنت كلما أمر عليه وهو يراقبها لا يأبه بي وكأن الشمس قد سحرته وجعلته لا ينظر إلا إليها فلا يبالي بأحد... كمتيم فتنته حبيبته فلا ينظر إلا إليها ولا يبالي بغيرها....كانت تعجبني نظراته البريئة..لا بد أنه يرى مالا أراه...فتراه ماذا يرى ويحجب عني؟ ..كنت أخرج مبكرا لعلي أرى شيئا عجيبا في هذا الشروق..ولكني لم أشاهد شيئا...كل اشراقاتها متشابهة...شمس اليوم ..هي شمس البارحة..فتمنيت أن يرجع ذلك الصغير لأسأله...ليعلمني هذا الأمر العجيب...ولكنه لم يعد...سألت عنه فقيل لي أنه مريض ..قررت أن أزوره في بيته فقد اشتقت له..لقد ألفت رؤيته ..فالشمس في الصباح من دونه لاشيء وكأنها لا تكتمل إلا به..فما الذي يجمعهما...وكأن السماء أحست بغيابه فتلبدت بالغيوم....فمنذ غيابه والسحاب يبسط أجنحته على السماء..لم يترك الشمس تظهر إلا لحبيبها...فيا لهما من حبيبين ..الشمس والطفولة.
دخلت بيت ياسر الطفل الصغير فوجدته مستلقيا على فراش المرض ...كان التعب يظهر على وجهه الأصفر الشاحب..حييته وقبلته على وجهه ...وكأنه أحس بما جئت من أجله فابتسم ...فجلست بجانبه ...مسحت على شعره الأصفر الجميل...ما بك يا صغيري؟ ما كل هذا الغياب؟ فالشمس لم تشرق منذ غيابك..هيا أزح عنك هذا الغطاء واخرج حيث كنت لعل الشمس تشرق بخروجك...نظر نحوي وقد عرف أني كنت أراقبه كل صباح وقال نعم يا عمي فأنا أنهض باكرا من أجل ذلك المنظر الإلهي البديع الذي يتجلى كل صباح...ألم ترى الشمس وهي تشرق ؟ ...عندما تشرق الشمس معلنة بداية يوم جديد وترسل أشعتها الذهبية نحو الأرض ..نحو هذه الطبيعة تتجلى قدرة الله..أنظر إلى الأزهار وهي تعانق أشعة الشمس التي انتظرتها بعد ليل دامس طويل..تفقد الأشجار وهي تبتسم لها...كذلك أنا يا عمي أنتظر إشراق الشمس لأرى عظمة الخالق..فهي تظهر بوضوح ...فتأملها ولو مرة بتفكر وتمعن ولا تراقبها كمشهد يمر عليك كل صباح..فهذه علاقتي بالشمس
رجعت إلى البيت بعد أن عرفت كيف كان هذا الملاك يراقب الشمس..وكيف نراها نحن ...هذه الحقيقة التي نراها بأعيننا وتغفل عنها قلوبنا...الشمس كمنظر طبيعي والشمس وعظمة خالقها.
خرجت في لصباح الباكر وجدت ياسر فوق التلة كالمعتاد ..جلست بجواره حتى بزغت الشمس ...صاح ياسر لقد ظهرت هاهي الشمس أنظر ما أجملها ..ما أعظمها..هل رأيت منظرا مثل هذا من قبل؟...نعم لقد رأيته ولكن ليس بقلبي فقط بعيني ..لقد ظهرت بظهورك يا ياسر بعد أن تلبدت عند مرضك...فتهلل وجهه فرحا ...حقا هل غابت الشمس من أجلي؟..تركت ياسر يراقب بقية المنظر وركبت سيارتي متوجها نحو العمل وأنا أراقب الشمس من زجاج السيارة ..نعم أول مرة أشاهدها بهذه الطريقة....شاهدتها بأعين البراءة..عيون ياسر... فكانت أروع من الخيال .