مشاعر صادقة تفيض من أعماق قلب ملئ أشواقا وحنينا.. كل شيء جديد.. عيناه مبعثرة هنا وهناك تنظر إلى تلك الخطوات.. وجوه بل بشر بشتى الأصناف.. أذناه تسمع غريب اللكنات.. إنها حياة من الحيوات.. فما زال قلبه معلق بتلك الذكريات.. تمشي قدماه على رصيف الطرقات، بنظام كله قوانين وإلتزامات.. هذه نفسه تركب على تلك العجلات، لترى كل شيء بتباين طيف حنين الذكريات.. ذاكرة فكره تعلمت الكثير من المهمات.. تعلمت تلك الحياة.. ومازال شخصه ثابت على مبادئ النفس وقيم العادات.. إنها شخصي في أقصى بلاد الغربة وعلى بساط هواء فيض الأشواق.
نعم بعثت إلى بلد في أقصى الجنوب الشرقي من بلدي، بلد أبعد من الصين التي أوصانا الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن نقصدها لطلب العلم، خرجت لطلب العلم في بلد أصبح يقصده القاصدون من كل الشعوب كل حسب مقصده، وهذه البلد بلد يقع في الشرق ولكنه يعد من بلدان الغرب، سبحان الله!
دخلت الفصل وإذا بي أرى أناسا لا أعرفهم بالفعل، كيف أحيهم! فقلت: "السلام عليكم"، فلم يرد أحد علي لأن صوتي لم يكن عالياً عليهم ، فقمت وتمعنت فيهم فإذا أرى وجوهاً مختلفة لم أعتد أن أراها في مجتمعنا، هل أصافحهم! لا يجوز شرعا مصافحة النساء الأجنبيات، إذن كيف أحي هؤلاء الناس؟ هل بالإشارة؟ أم بالإبتسامة؟ توقفت متحيرا هل تحيتي لهم من الأدب أم من التدخل في خصوصياتهم! أين أجلس والصف معظمه طالبات، رأيت مجموعة متحجبة فسلمت عليهن فرددن السلام، فقلت: "كيف حالكم؟" فنظرن إلي متعجبات وعلامات الإستغراب في أعينهن، فككرت مرة أخرى: "كيف الحال؟" وكأنهن لم يعرفن ما أقول: فقلت مرة ثالثة بصوت أوضح: "كيف الحال؟" فرددت أحداهن باللغة الإنجليزية أنهن لم يفهمن ما أقول، فسألتهن باللغة الإنجليزية: "ألا تتكلمن العربية؟"، فقلن: "لا"، فقلت لهن: "أنتن رددتن السلام بالعربية"، فقلن: "ذاك ما نفقه من العربية".
أصبححت غريبا فكيف أكون أديبا! هذا كان شغلي الشاغل، لأني كل يوم كنت أسمع أن القانون هنا كذا، "لا تقطع الشارع من هنا"، "لا تخرج ليلا"، "لا تسأل عن هذا"، "لا تنظر إلى هذا"، " هذا ممنوع"، "لازم تدفع لهذا قبل أن يحصل كذا وكذا"، " لازم تلبس الحزام الأمان في الكرسي الخلفي"، "ولدك ممنوع يركب قدام"، فأصبحت وكأن قوانينا وأعرافا جديدة لابد أن أعرفها لكي لا أقع في خطأ.
فمعنى الأدب والعرف يختلف من شعب لآخر والشيء المحير أن هذه البلد لا يسودها شعب واحد فيتوجب علينا معرفة أعرافهم وحينها نتأدب ونحترمهم جميعا، فهي تجمع جاليات وعرقيات مختلفة منها ما سمعنا به ومنها ما لم نسمع عنها بتاتا، فأي هوية وأي أعراف على الزائر أن يعرفها؟! فهل عليه أن يبني هوية جديدة أو يتخلى عن هويته التي تأصلت فيه وعاش عليها؟!
بدأت تلك الهوية التي حطت في هذه البلد تبحث عن ما يغذيها من علم وفكر وثقافة لكي تصل إلى الكمال الخلقي والمعرفي وما يتناسب مع البيئة المحيطة، فصليت يوما في مسجد في منطقة إسمها "وستول" يجتمع عددا كبيرا من الإندونيسيين فيه، فقلت مع هؤلاء يجمعني الإسلام ، ولكن ما إن انتهت الصلاة إلا ورأيت الأشخاص يسلمون على بعضهم ولا أفقه منهم شيئا، حتى عندما تحدثوا بالإنجليزي بحكم أني معهم فيتحدثون عن أشياء ليس لي بها صلة ابدا، فرأيت أني بيني وبينهم أمداً بعيدا، وهكذا الأمر حصل لي عندما التقيت بالجاليات البنجالية، والهندية، والتركية، والماليزية إلى أن وجدت بعض الإخوة من بلاد الحرمين، فقلت هؤلاء أقرب بموجب تشاركنا في اللغة العربية وقرب المكان، وما زال الشعور بأني غريب بين هؤلاء مستمراً، وإن كانت تجمعنا بعض الروابط ولكن يظل المرء يبحث عن هم أقرب إليه وتظل الهوية تبحث عن مستحقاتها فتأخذت ما يناسبها واستمرت تبحث عن ما تستطيع أن تشارك به هموم مجتمع وثقافة واحدة.
ومن خلال مخالطتي لمختلف الثقافات تعرفت أولا على ملامح ثقافتي وهويتي ، فكما قيل "بالأضداد تعرف الأشياء"، فعرفت أن لأعرافنا وعاداتنا أصولاً تناسب مجتمعنا، وقد لا تناسب مجتمع آخر وهكذا تعلمت أن الثقافات الأخرى لها معاييرها وأسلوبها في الحياة بما يتناسب مع دينها وأفكارها ومجتمعها، وقد لا يجد المرء ما يغذي هويته وثقافته بما يناسبها فيذبل في ثقافات أخرى ويتغذى بأفكارها فتغير من ملامح هويته الأصلية، ويصبح شخصا بلا هوية أصلية بل متعلقا بقشاشات تدفعه مع كل تيار يجره ويسوقه فيعصف به في في متاهات لا يعرف الرجوع إلى أصله وعرقه وثقافته، فقد يرجع إلى بلده فيجد نفسه منبوذا لأنه يحمل أفكارا لا تتناسب مع مجتمعه ولا ثقافته.
واستمرت رحلة البحث حتى كان اليوم الرياضي الذي دعاني إليه بعض الإخوة من عُمان لأشاركهم فيه، فأخبرني أن العمانيين عندهم يوما رياضيا في المدينة (ملبورن)، فلم أكن أتصور يوما رياضيا لعمانيين في هذه البلد ، لأني لم أكن أعرف عدد الطلبة العمانيين الذين يدرسون في فيكتوريا، فكنت أتصور أن عددهم قليلا، فما إن وصلنا إلى الصالة الرياضية إلا وأجد أسمي في أحد الفرق الرياضية، فقمت أتصفح قوائم الأسماء فوجدتهم كلهم عمانيين وكأني في عمان، وعددهم كبير بحيث كانت هناك أكثر من ستة مجموعات، وهذا للشباب فقط وللطالبات قسم آخر في الصالة، فاستغربت واستحييت من نفسي أني لم أكن أعرفهم من قبل، والأمر المحرج أنني لم أكن قد أعددت نفسي لألعب في ذلك اليوم فلباسي لم يكن رياضيا، أو بمعنى آخر أنه لا يلبسه شخص للعب، ولكن حبي للرياضة وإندماجي مع بني جلدتي جعلني أرضى بواقعي وأشارك فرحة تجمعنا في ذلك اليوم الذي سيظل ذكرى لأيام قضيتها مع أعضاء الجمعية العمانية، وبدأ اللعب وكنت أخاف أن يخسر فريقي لأني لم أكن على ذلك الإستعداد ولكن حصل العكس فقام فريقنا يتصدر ويفوز على فرق كان لها الشأن في الأعوام السابقة، حتى جاء المركز الأول من حليفنا.
فبعد بحث وجدت ما يغذي هويتي بالتعرف على الثقافات المتعددة فعرفة قيمة ثقافتي والتي لم يتسنى لي التفكير في ماهيتها وأنا في بلدي وبين بني جنسي، ولكن هويتي عززتها بالإنخراط في المجتمع العماني الذي يتمثل في الجمعية العمانية في فيكتوريا وذلك من خلال الموقع الإلكتروني حيث يشارك أعضاء الجمعية أخبار بلدهم وأحوالهم في أستراليا، وكذلك من خلال المناسبات الدينية والإجتماعية واللقاءات والزيارات الأخوية.
أوقول نعم هنا لعبت الجمعية العمانية متمثلة في أعضائها الكرام في ترسيخ الهوية العمانية في بلاد الغربة والتخفيف من الشوق والإشتياق إلى الأهل والبلد الحنون، ويكفينا شرفا المعرض الثقافي الأول في ملبورن أن يرسخ بعض الجوانب الثقافية العمانية والعمل التعاوني بين أعضاء الجمعية، وهناك يشعر الطالب العماني أنه مع أسرته وإلى من ينتمي، وكيف يعبر عن خلجات نفسه، وكيف له أن يساهم في تعريف ثقافته للآخرين.
من هنا أستراليا بلد الغربة بمشاعر ارتبط قلبه بروتين الحياة واعتادت نفسه على تلك الحياة حتى صارت جزءا من نظام خلاياه دون انفكاك, فألفها أحب بلادي، ومازال الوفاء في أعماقي وهنا سينها سترى مني ساعد التقاط الفوائد وتلك اللغات، وتاءها تألقت في عيني حتى تعلمت بأني من عرب العروبات، وهنا الراء التي رأيت بنفسي أني على حق الديانات، فعادت ألفها على فكري فقلت أحبك بلادي يا أعز النسمات، أمّا لامُها لمُّ شملي بأصحاب نتبادل ذكرى الأعماق ونأتي بعملاق الطموحات، وياءها زرعت في نفسي يسر من الله على كل الصعوبات، وهنا ألفها عادت من جديد لتختم لي بأني ألفتك على أرضي وأنت من ضيوف الخصوصات.